كتب: محمد امير
في أحد أحياء الجيزة، يعيش يوسف هاني، طفلٌ في العاشرة من عمره، يبدو للوهلة الأولى مثل أقرانه: يذهب إلى المدرسة صباحًا، يلعب الكرة بعد الظهر، ويتبادل الضحك مع أصدقائه. لكن ما لا يراه الآخرون هو التحدي الذي يصاحبه في كل جملة ينطق بها: التأتأة.
ليست المشكلة في فهم يوسف أو ذكائه، بل العكس، تقول والدته إنه طفل شغوف بالكتب والقصص، يقرأ يوميًا بصوتٍ عالٍ في المنزل رغم صعوبة النطق. وتضيف “نحفّزه دومًا، ونشجّعه على الحديث، لا نُركز على التأتأة بقدر ما نحتفي بقدراته”.
بداية صامتة… وصوت يبحث عن مخرج
مرت سنوات الطفولة الأولى على يوسف وسط محاولات كلام تتعثر في منتصف الطريق. لم يكن يعرف ما الذي يحدث بداخله، كل ما يشعر به هو إحباط وخوف كلما طُلب منه أن يتحدث. في المدرسة، بدأ يلاحظ الفرق بينه وبين زملائه، كان يعرف الإجابات لكنه يتردد في رفع يده، وكان يتمنى أن يشارك في الإذاعة المدرسية، لكن صوته المتقطع حبسه في الظل.
تقول والدته “لم نفهم في البداية أن هذه تأتأة، كنا نعتقد أنه يحتاج للوقت فقط. لكن مع الأيام، بدأت الكلمات تتأخر أكثر، وأحيانًا لا تخرج أبدًا”.
الموقف تغيّر حين لاحظ أحد معلميه الأمر، وقررت إدارة المدرسة التواصل مع أخصائية تخاطب. بدأت رحلة يوسف العلاجية بجلسات فردية وأخرى جماعية، تعلّم فيها كيف يتحكم بتنفسه، ويبطئ من إيقاع حديثه، ويواجه المواقف التي كانت ترعبه.
اليوم، وبعد أشهر من المتابعة، أصبح يوسف أكثر وعيًا بشخصيته وبما يمر به. لم يعد يهرب من الحديث، بل بدأ يشارك في عروض المسرح المدرسي وهو الذي كان يخشى خشبة المسرح من قبل. تحوّلت التأتأة من عائق إلى حافز للتطور، ومن نقطة ضعف إلى باب جديد لاكتشاف الذات.
مش بس مشكلة كلام ..التأتأة من منظور طبي
يوضح الدكتور محمود سعد، أخصائي التخاطب للأطفال، أن التأتأة ليست مجرد اضطراب نطقي، بل قد تتحول إلى أزمة نفسية إن لم تُفهم وتُعالج مبكرًا. يقول“الطفل المصاب قد يفقد ثقته بنفسه، ويتجنب المشاركة المجتمعية، ويتراجع أكاديميًا بسبب خوفه من التواصل”.
رغم أن بعض الأدوية تُستخدم أحيانًا، إلا أن العلاج الأهم يتمثل في برامج التخاطب والتدريب السلوكي. يشير الدكتور سعد إلى أن برامج العلاج تختلف باختلاف عمر الطفل، لكنها تشترك في هدفٍ واحد تحسين طلاقة الكلام وتقوية الثقة بالنفس.
ويشدد على أن البيئة المنزلية تلعب دورًا حاسمًا “لابد من توفير جو هادئ، وتجنب الضغط على الطفل بالكلمات مثل ‘تكلم كويس’ أو ‘كررها تاني’. هذه العبارات لا تفيده، بل تزيد من توتره”. ينصح أيضًا بعدم المقارنة بين الطفل وبين أقرانه أو أشقائه، بل بقبوله كما هو وتشجيعه على المحاولة دون خوف من الفشل.
صوت واحد لا يكفي
قصة يوسف ليست مجرد حالة فردية، بل دعوة لمجتمع أكثر وعيًا. فالتأتأة، كما تقول والدته، “مخدتش منه ذكائه، لكن كادت تأخذ منه صوته”. وبتفهم من حوله، ودعم أسرته، ووعي مدرسته، وجد يوسف صوته من جديد.
وربما يكون أهم ما في القصة أن يوسف لم يتغلب فقط على صعوبة في الكلام، بل على الخوف من أن يُسمع.