أزمة صامتة في القرى.. الصحة النفسية للأطفال خارج دائرة الضوء

كتب: محمد النجار
وسط الطرق الضيقة والمنازل المتجاورة بإحدى قرى مصر الريفية، حيث تبدو الحياة بسيطة وهادئة، يعيش يوسف، طفل في الحادية عشرة من عمره، يبدو في الظاهر كأي طفل في مثل سنه، يذهب إلى مدرسته القريبة كل صباح، ويعود بعدها ليكمل يومه في روتين مألوف. لكن خلف هذا الهدوء، كانت تختبئ أزمة حقيقية لا يراها أحد يوسف يعاني في صمت لم يكن الصمت الذي يلف الطفل مجرد خجل، بل كان انعكاسًا لحالة نفسية معقدة تطورت على مدار شهور دون أن ينتبه إليها أحد. يقول دكتور محمد عاشور، استشاري الطب النفسي للأطفال “حالة يوسف ليست فريدة من نوعها، بل تمثل نمطًا متكررًا في المجتمعات الريفية حيث تُهمّش الصحة النفسية للطفل ويُنظر إليها على أنها رفاهية لا ضرورة لها”
يوسف جاء إلى عيادة الدكتور عاشور ذات يوم، عينيه في الأرض وصوته بالكاد يُسمع. بدا عليه الخجل الشديد، لكنه لم يكن خجلًا عابرًا بمرور الوقت، ظهرت ملامح اضطراب أعمق انسحاب اجتماعي، حزن دائم، إجهاد غير مبرر، وانعدام التفاعل مع من حوله. والداه اعتقدا في البداية أنه مجرد طفل حساس، بينما لاحظت معلمته تغيرات سلوكية واضحة، دفعها القلق إلى محاولة الحديث معه. عندها قال يوسف جملة كشفت الكثير: “مفيش حد بيشوفني، ولا حد بيسأل عليّ ،كانت تلك الكلمات إشارة واضحة إلى معاناة نفسية حادة، ترجّح إصابته بنوع من الاكتئاب الطفولي. وهو اضطراب قد يبدو غير مرئي في البداية، لكنه يترك آثارًا طويلة الأمد إن تُرك دون علاج.
د. عاشور يوضح أن “الاكتئاب لدى الأطفال ليس نادرًا كما يعتقد البعض، لكنه غالبًا ما يُهمل في القرى نتيجة غياب الوعي. الطفل يُنظر إليه باعتباره كائنًا صغيرًا لا يمكن أن يمر بأزمات نفسية، وإن ظهرت عليه تغيرات مزاجية أو سلوكية تُفسر على أنها مراحل وستمر”
من خلال عمله، رصد الدكتور أن الاكتئاب قد يظهر لدى الأطفال بطرق غير مباشرة مثل الانعزال، فقدان التركيز، صعوبة النوم، تغيرات في الشهية أو الوزن، وافتقار عام للطاقة. ورغم أن هذه العلامات واضحة في أعين المتخصصين، فإنها لا تثير القلق في المجتمعات التي لا تعترف أصلًا بوجود أمراض نفسية لدى الأطفال
المشكلة تتفاقم مع غياب مراكز دعم نفسي مخصصة للأطفال في المناطق الريفية، وندرة حملات التوعية التي تشرح للأهل كيف يتعرفون على علامات الخطر مبكرًا. يُشدد د. عاشور على أن “الطفل في القرى لا يجد من يفهم مشاعره، وفي كثير من الأحيان، يُعامل على أنه مخطئ أو مدلل، لا مريض بحاجة إلى رعاية”.
ويضيف: “ما يحتاجه الطفل ليس فقط العلاج، بل بيئة آمنة تسمح له بالتعبير عن مشاعره، وإشارات مستمرة من المحيطين به بأنه مهم وأن مشاعره محل اهتمام”.
قصة يوسف ليست مجرد حالة فردية، بل جزء من ظاهرة أكبر أزمة الصحة النفسية في القرى. وهي أزمة صامتة، لكنها تُهدد جيلًا بأكمله بالنشأة في ظل الكتمان، دون أدوات للتعامل مع أوجاعهم النفسية. وفي مجتمع لا يرى الطفل إلا من زاوية بدنه ودروسه، يبقى الاضطراب النفسي خارج دائرة الضوء